الفصل الثاني
(البحر بئر إسطورى يخبئ أسرارنا وحكاياتنا)
القرية، شتاء 1985
لا يكل موج الأيام عن حركته البندولية، إقدامٌ وإدبار، محملاً بحبات رمل الذكريات؛ يلقيها على شاطئ العمر، حبات فوق حبات، شيئًا فشيئًا تتجمع إلى جوار بعضها البعض، ويومًا بعد يوم تغدو أهرامات صغيرة بارتفاع قبضة طفل يلهو على شاطئ العمر، يغوص الموج العنيد في كَبِد البحر ويعود ملء فمه برمل الذكريات، فإذا ما اجهدته السباحة بصقها على الشاطئ وعاد ثانية للبحر. البحر بئر أسطوري يخبئ أسرارنا وحكاياتنا.
يتعاقب الليل والنهار، يومًا إثر يوم، تغدو كومات ذكرياتنا الصغيرة تلالاً ثم تَضْحَى جبالاً شاهقات، صغيرة في طفولتنا، كبيرة مع هِرَمنا، نستملح طعمها في المشيب ونستحلب حلاوتها في كهوف أفواهنا بعد ما حطمت أسنانها السنين وتراكمت عند بواباتها كُثبان رمل الذكريات.
حاضر اليوم ذكرى الغد، سعينا الدؤوب وكسلنا، إقبالنا وإدبارنا، شجاعتنا وعجزنا، انتصاراتنا وهزائمنا، حبنا وكرهنا، حاضرنا دقيق يصنع منه الغد خبز الذكريات، نفطر منه على موائد جوعنا العاطفي، وحين يلفنا صمت الوحدة وتنسج عناكب النسيان خيوطها الفضية حولنا.
أراني طفلاً لا يتجاوز السادسة يلعب مع أقرانه في القرية القابعة على حدود أحد شرايين النيل الرفيعة كثعبان يزحف في كبد الأرض فتشرب منه حتى ترتوى وتتجشأ، تنتفخ بطنها حتى يقترب مستوى الماء من ركبة أبى العارية في حقول الأرز.
وفي الجوار تسرح سنانير الرجال والصبيان عند النهر وقت العصاري، يستظلون بأشجار الصفصاف والكافور المتناثر على طول الشاطئ. اسماك نهرنا أصغر من حجم كف أبى؛ يميل لونها للخضرة أو للسواد. تعلمت شويها مع أقراني على قطعة صاج نشعل تحتها بعض الحطب والقش، نتحلق حول النار نترقب أوان نضجها في لهفة ونادرًا ما يكتمل، ما أن يميل لونها قليلاً للسواد حتى يتحفزون ويتحينون الفرصة لخطفها والفرار بها بعيدًا وأكلها منفردين، كقرود عصيه على الألفة.
عودني محمود، جارى وزميل الدراسة الثانوية والجامعية، شي البصل والبطاطس مع السمك على الصاج. ما زالت طعومها الشهية في فمى. نُخرج الحبات المشوية بقطعة خشب رفيعة؛ نتلقفها ساخنة من يد لأخرى، نشقها إلى نصفين فتنفث في وجوهنا رائحتها الذكية والدخان، فنتقاسمها فيما بيننا، وقد تَلطخت وجوُهَنا بالهباب والسخام.
كانت هذه العادة أفضل ما علمنى محمود ضمن كثير من عادات سيئة وجيدة، وكما فشلت أنا في جذبه لعالم القراءة فشل هو في تعليمى الشطرنج؛ ملكت عليه كيانه، نتحدث في موضوع ما فيعلق "كش ملك"، بعد ما انتهت جيهان من سرد ما دار بين أبيها وشاب يعمل بالخليج تقدم لخطبتها، نظر في وجهى عبر طاولة كافيتريا الجامعة وقال،- كش ملك وبينما نهضت جيهان لتغادر منصرفة، أبقيت نظري مصوبًا نحو كوب الماء البارد أتابع محاولات ذبابة بائسة سقطت فيه للنجاة دون بارقة أمل تذكر.
بيتنا صغير، دور أرضى، بُنى بالطوب اللبن، لا يصد بابه الريح ولا غضب أبى، تنتشر خلفه أكوام القش؛ نلعب عليها، وتختبأ بها الأرانب وتضع فيها الدجاجات بيضها، وتجدل منها أمى لفائف دائرية تطعم بها الفرن حين تخبز أو تشوى، وينام عليها أبى في ليالى الصيف شديدة الرطوبة والحر.
الذهاب للمدرسة قطعة من العذاب؛ تبعد المدرسة الإعدادية عن قريتنا ثلاثة كيلو مترات، لا مواصلات، ولا دابة نركبها، نقطعها مشيًا أنا وأخى الأكبر، نتحمل المشى لكننا لا نتحمل الوحل، في الشتاء ينهمر المطر على قريتنا والقرى المجاورة، تغدو الطرقات برك مياه وأكوام وحل نحاذرها ما استطعنا ونادرًا ما ننجح في تفاديها إذا امتدت بعرض الطريق، تغوص أقدامنا لمسافات تختلف وشدة المطر، نشمر سراويلنا لما فوق الركبة، نحمل أحذيتنا في أيدينا حتى لا تبتل فيلسعنا الماء وتحمر كفوفنا وأقدامنا من شدة البرد. عند أول الأسفلت نغسل أقدامنا ووجوهنا من حنفية عمومية، ولم نكن نعدم من يصيح فينا بغضب خشية إهدار الماء.
عندما لحقت أختى بنا صار أبى يوصلنا في الصباح على حماره، تركب أختى وأنا بصفتنا الأصغر، ويمشى هو وأخى الأكبر إلى جوارنا. لم اتخيل أن أختى سوف تُسدى لى معروفًا كهذا، لم نكن نكف عن الشجار لأتفه الأسباب، شقاوة أطفال مع شيء من غيرة ساذجة، حتى إذا ما دَخَلت المدرسة صرت أحظى بركوبة لم أحلم بها بسببها، استيقظ في الصباح أدعو الله أن تكون بخير حتى يصحبنا أبى ونمتطي الحمار، وعندما كبرت قليلاً صرت أخشى أن يصيبها ما يصيب البنات كل شهر، عندها لم تكن تقو على الخروج، ترقد مريضة ليومين، ألعن فيهما المدرسة والطريق والشتاء والدورة الشهرية وأدعو الله في سرى أن يشفيها بسرعة.
تمنيت، أمام عذابات المشوار اليومى ألا أكمل تعليمى. اهملت دراستى لكنى لم اتمكن من الغياب عن المدرسة، وكيف أغيب وأخى واختى يصحبوني في رحلتى اليومية. لم يجذبنى شيء تجاه الدراسة؛ نفور دائم، اللهم إلا حب اللغات الأجنبية.
سألنى أبى ذات مرة عن درجاتى الشهرية، فأخبرته أننى لم اتسلم الشهادة بعد، انبرت أختى تكذبنى وتستشهد بدرجات أقرانى، ذلك أن بعضهم كان يصحبنا لجزء من الطريق فلا ينفكوا يتحدثون عن الدراسة والمدرسين والامتحانات فإذا ما ظهرت الدرجات راح كل منهم يتفاخر بدرجاته. نظر لى أبى نظرة نعرفها جميعنا؛ نظرة لا يعقبها خير؛ يأخذ الإعصار في التكون وترتفع درجته مع مرور الوقت، نترقب لحظة الاجتياح ونتلهف قربها؛ فكلما تأخرت زاد مداه التدميري.
تهمتان بدلاً من واحدة، درجاتٌ منخفضة وكذب، وأبى لا يغفر الكذب، قد يتقبل تعثرى الدراسى لأسباب مؤقتة لكنه لا يقبل ولا يتفاهم إن كذب عليه أحد؛ أول كذبة هى آخرها. انتهى الأمر بعلقة لا أنساها، نمت بعدها موجوعًا تتألم كل خلايا جسمى، اتحاشى النظر في عيني أختي، بينما راحت كلمات أبي تتردد في رأسي،
- ها تتعلم غصب عنك والكذبة الجاية بره البيت
يعرف الجميع غضب أبى؛ أمى والجيران والمواشى في دوار بيتنا. يُدوى صوته كأنما يأتى من قلب مِدفع، يُذهل كل من في البيت ولا يُعصَم من ذلك مواشينا، تثيرها عصبيته وتحاول أن تتفلت من قيودها. ومع ذلك كنا نعذره، عاش يحلم بأولاده متعلمين أصحاب شأن في البندر، هكذا يسمى أبى المدينة، كان يرى في تعليمنا المعادل الطبيعى، إن لم يكن أعلى، لوقوفه على نفس المستوى الاجتماعى لبيت زاهر وبيت شلبى.
استمد الحاج زاهر مكانته في القرية بما يمتلكه من أراض كثيرة وتجارة رابحة، توقف أولاده عند تعليم متوسط رغم مكافحته لإلحاق أى منهم بالجامعة؛ دفع الكثير من الرِشى لمراقبي لجان الثانوية وأقام لهم ولائم طوال فترة الامتحانات، أكلوا ما لم يأكلوه في حياتهم، تحكى القرية أن ملابسهم ضاقت عليهم في نهاية الامتحانات فاشترى لهم ملابس جديدة، ومع هذا حصل أولاده على درجات متوسطة فآثروا التجارة مع أبيهم على استكمال تعليمهم باستثناء ريم.
ريم، أول حب عرفته، لم يزد ما بيننا عن لغة عيون تتحدث بكل أبجديات الهوى متى جمعتنا تلك السيارة المتهالكة المتواضعة من أول طريق قريتنا إلى المدرسة الثانوية في المدينة القريبة، كانت أصغر منى بعام؛ تعارفت عيوننا وأنا في الصف الثانى الثانوى، لم انتبه لها سوى في الفصل الدراسى الثانى، حتى ظننت أنها غريبة عن القرية لولا تهكم محمود، اتهمني أننى أعيش في القرية كالغرباء، وقفت أمامه كطفل مبتل وهو يغمرنى بما يعرفه عنها وعن أخواتها وأبيها والولائم التى أقامها لمراقبى لجان الثانوية.
اكتفينا أنا وريم ولعام ونصف العام بالنظر من خلف اكتاف الجالسين في السيارة الميكروباص المتهالكة، أو التفاتات أتقنا كيف تبدو عفوية عندما أنحرف يسارًا من أمام بوابة مدرستها إلى مدرستى القائمة على نحو مائة متر عن مدرستها.
كنت انتظر أن يكبر حبنا وينمو عندما تدخل الجامعة في العام التالى، إلى ان سمعت أبى يتحدث مع أمى عن قريب له يرغب تزويج ابنه من إحدى بنات عائلة زاهر، عقب أبى معترضًا على هذه الزيجة؛ ذكر أسبابًا مختلفة ثم أنهى كلامه كمن يتخذ قرارًا ويبلغه للشاهدين، مضمونه؛ أنه لا يحب أن يتزوج أحد أبناءه من هذه العائلة.
كانت ريم لا تزال في الصف الثالث الثانوى وكنت أنا في الصف الأول الجامعى، في ذات الليلة التى ألقى أبى فيها قراره اتخذت قرارى الموازي بوأد حبى لريم مقرونًا بهجر القرية؛ فصرت لا أنزلها إلا في أجازة نصف العام لأيام قليلة أعود بعدها إلى الأسكندرية متعللاً بالاستعداد للدراسة، وفى الأجازة الصيفية لأيام تطول قليلاً ثم أرحل متذرعًا بالتدريب في مكتب استشارى.
منذ آخر مرة رأيتها في الميكروباص المتهالك في نهاية العام الدراسى السابق لدراستى بالجامعة لم أرها ولم أعلم عنها شئ حتى أخبرنى محمود في أحد زياراته المتكررة، ووسط ما يلقيه علىّْ من أخبار القرية، أنها تزوجت أحد ابناء عائلة شلبى؛ شاب يعمل مع والده في التجارة رُزق منها الأولاد والبنات، غيرت الموضوع خشيت أن يخبرنى أنها أصبحت كتلة من اللحم الأبيض المترهل؛ بلا حدود أو فواصل أو جغرافيا يسهل التعرف على تضاريسها، أو يخبرنى بأن ذراعيها تغطيهما أساور ذهبية يزيد عددها نهاية شهر رمضان من كل عام؛ مع عودة زوجها من أداء مناسك العُمرة، خشيت أن يصدمنى بتفاصيل تغير صورتها وفضلت أن احتفظ في خيالى بصورة ريم؛ الفتاة الرقيقة كفراشة تتنقل بين الأغصان بمريول المدرسة، بشرة بيضاء مُشربة بورد، دقيقة الملامح كعصفور، بسيطة الحدود كقارب صغير، مسحوبة الأصابع كإسفنج بحرى.
هل كانت كلمات أبى عفوية، وهل كان هناك من يرغب، فعلاً، في الزواج من عائلة زاهر، أم أنه اخترع الموضوع ليصرفنى عنه بطريقته المعتادة؛ غير المباشرة، عندما أفكر في كلامه الآن أوقن أنه كان يقصدنى أنا، أرسل لى رسالة غير مباشرة ضمن شلال رسائله المبعثرة في كل مكان يمر به؛ يلقيها بتلقائية سقوط المطر في مواسم الشتاء، وبعفوية وقوف عصفور قَلِقْ على غصن شجرة، رسائل تبدو عابرة بلا لون ولا طعم فإذا ما تفحصتها بهرتك ألوانها وطعومها، أما كيف عرف، وكيف أدرك، فهذا ما لا يتناسب مع رجل مثله احترف قراءة الوجوه والعيون.
حصل أخى الأكبر على مجموع أهله لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وسار فيها بشكل جيد مكنه بعد ذلك من التعيين معيدًا في الكلية، ثم تركها والتحق بالسلك الدبلوماسى. وحققت اختى حلم أبى وتخرجت من كلية الطب، فيما مكننى مجموعى من الالتحاق بكلية التجارة، جامعة الأسكندرية، قسم إدارة أعمال، لم يكن من الأقسام المعروفة في ذلك الوقت.
وكما كانت ريم أول حب ألزمنى الرحيل عن القرية، كانت جيهان سببًا في رحيلى عن الأسكندرية، جمعتنا الزمالة والشباب والتفاؤل والعشم في غد جميل معًا، لكن أحلامنا كانت أكبر من امكاناتنا، جذب جمالها الكثيرين لخطبتها، قاومت قدر استطاعتها وطاوعها أباها على مضض، وعندما تقدم من يصعب رفضه رضخت لرأى أبيها، وافقت وسافرت معه إلى البلد الخليجي.
بتخرجي واتقاني للغتين الفرنسية والإنجليزية تمكنت من العمل في شركة كبيرة ذات فروع تمتد من الخليج إلى المحيط، انتقلت بعدها للعمل في الأمم المتحدة فرع القاهرة ومع الترقى انتقلت إلى فرع بيروت ليبدأ الفصل الأكبر في حياتي.
إلى لقاء في فصل جديد